[ضمن سلسلة "كتب“ التي تعنى بالإصدارات الجديدة، تنشر ”جدلية“ حواراً مع الناقدة ديمة الشكر وفصلاً من كتابها الصادر حديثاً ”الرنين المطوّق: العروض قديماً وحديثاً“، الشارقة، دائرة الثقافة والإعلام، ٢٠١٣.]
جدلية: كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
ديمة الشكر: تبلورت فكرة الكتاب خلال سنين من قراءتي لعلم العَروض، الذي لم يقدني إليه إلا شغفي بالشعر الحديث حصراً، بشقيه الموزون (التفعيلة) وغير الموزون (قصيدة النثر). الشعر الحديث هذا هو أصل القصة كلها، إذ بدأت بقراءته منذ الصغر وكان "حديقتي السرية"، خلافا للقصيد أي الشطرين المقفى الذي كان حصة ما هو رسمي وقتها أقصد المدرسة. أعجبني الشعر الحديث، فبدأت أقرأ عن شعراءه وعنه، فاكتشفت "خلافا" لم يعجبني إن جاز التعبير بين شعراء الحداثة حول أمر محدد هو الوزن، هكذا أردت التعرف عن كثب إلى ما اختلف حوله الشعراء الذين أحبهم، وبدأت بقراءة كل ما يدور حول الأمر إلى أن وصلت عفويا وتلقائيا إلى الكتب التراثية فبدأت أقرا من دون ان أفهم الكثير، ومن دور تصور أو سياق، إذ إن كتب العروض متشابهة كلها حد التطابق، وهي لا تعطي القارئ فرصة للتفكير في سياق العلم أو تاريخه مثلا، ولا تفتح النافذة التي انتظرتها : ما تأثير غياب الوزن أصلا عن القصيدة؟، ما دوره تحديداً حين تكون القصيدة موزونة؟ فاكتشفت أن علي فتح النافذة بنفسي، وأن أوسع منظوري. الأمر بسيط في رأيي : لم أكن لأكتب عن العروض لو لم أولد الآن، فلو كنت قد ولدت في القرن التاسع عشر مثلا لما خطر الامر في بالي مطلقا، من هنا أنا مدينة لشعراء الحداثة، هم من قادوني إلى علم العروض.
جدلية: ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب ؟
ديمة الشكر: نظراً إلى عدم وجود أي كتاب يبحث في تاريخ علم العروض ويبسطه كما تم الأمر مثلا مع علم النحو، كان لا بد لي من البدء مما قبل الخليل إلى اليوم. صحيح أن الفترة طويلة جدا، ثلاثة عشر قرناً، لكن لا يمكن البحث في العروض وبالتالي التوصل إلى نتائج علمية وأطروحات يعول عليها أو ذات صدقية من دون البحث في تاريخ العروض كله. الفكرة الرئيسة الأولى هي أن كتب العروض كلها كتب تعليمية، أمليت على طلبة العلم، وهي صورة شبه متطابقة مع كتاب الخليل الضائع. ومنهج الخليل في تأليف الكتاب أثر بشكلٍ طاغ على من جاء بعده. الخليل صاحب العقل الرياضي دوّن إيقاعات الشعر وفقاً للطريقة القياسية : القاعدة ثم مثال عنها. هذه نقطة الانطلاق أردت تصور كيف فكر الخليل؟ ولماذا دوّن الإيقاعات على هذا النحو؟ وما هذه الدوائر التي تزين غالبية كتب العروض؟ ما دورها ما وظيفتها؟ فتنني الخليل بن أحمد، ومن حسن حظي أنني تعلمت العزف على البيانو في صغري وأجيد قراءة النوتة، فطنت فوراً إلى أنه لا يمكن مطلقاً تعلم العزف عن طريق قراءة كتب الصولفيج ولو أمضيت عمراً وأنت تقرأ، يجب أن تقرأ النوتة وأنت تسمع النغمة في آن واحد، العمليتان متلازمتان. والعروض كذلك، إذن هنا فهمت كيف دوّن الخليل علم العروض بالاستناد إلى أمرين يسمحان بالقراءة المنغمة من جهة وبتدوين الإيقاعات بطريقة تجريدية من أجل حفظها من الضياع من جهة أخرى، وبكلام أبسط، النغمات: فعولن مفاعلين الخ تشبه إن جاز التعبير ”دو ري مي“ إلخ أما رسم الساكن والمتحرك على دوائر الخليل فيشبه سلم النوتة الموسيقية مع وجود اختلاف طبعا، فالنوتة الموسيقية التجريدية أعقد بما لا يقاس من رسمي الساكن والمتحرك، أما نغمات الخليل فأعقد من نوتة موسيقبة مثل الـ دو أو الـ ري. ولكل من هذين التدوينين النغمي والتجريدي وظيفة يضطلع بها، تتيح تعلم الإيقاعات العربية ونظم الشعر على منوالها. حين بحثت في تصور الخليل للإيقاع إذن، استطعت العودة إلى ما قبله، والنظر في ما بعده، فغدا خياري في البحث من ما قبل الخليل إلى الحداثة أمراً مفروغاً منه. وهو ما قادني إلى نتائج مقنعة بالنسبة لي على الأقل، اكتشفت وجود فروق في التدوين بين الاندلسيين والمشرقيين الأوائل، إذ أدت مصادفة جميلة إلى وصول كتاب الخليل "الضائع" إلى الاندلس في القرن الثالث للهجرة واهتمام عبقري آخر هو عباس بن فرناس به، ما أثر بطريقة تدوين الاندلسيين للعلم، كتبهم أكثر منهجية وأفضل ترتيبا من المشرقيين الأوائل، لأنها صورة أصدق عن كتاب الخليل الذي عنوانه على ما أظن "الفرش والمثال".
وتوصلت كذلك إلى تفنيد واحدة من أكثر الأخطاء شيوعاً: استدراك الأخفش على الخليل بحر المتدارك. لم يستدرك أحد شيئا على الخليل، والخليل نفسه نظم على البحر المتدارك. القصة أن ابن خلكان ذكر ذلك ولم تتم اعادة النظر بما قاله ابن خلكان. والاهم أن ظهور البحر المتدارك في كتب العروض الأولى، كان يشي بمكانته لدى الشعراء وقتها: لم ينظر إليه العرب إلا بخفة، كان يبدو مفتقراً إلى مهابة الإيقاعات العربية، لا يمكن مقارنة نغمته المتراقصة مثلاً مع نغمة بحر الطويل الفخمة. وكان لا بد من الانتظار حتى القرن الرابع الهجري حتى يوضع المتدارك بشكل منهجي في كتب العروض، وهو ما قام به الصاحب بن عباد في كتابه "الإقناع في العروض".
وأحب فعلا قصة بحر المتدارك هذه، لأنها وسعت من منظوري تجاه استعمال البحور في الشعر الحديث: الأمر يتعلق بالذائقة، فهذا البحر بدأ بالانتشار وعندها دوّنه العروضيون أصولا في كتبهم، وهو واسع الانتشار اليوم في الحداثة. ويتعلق الأمر أيضا بطبيعة البحر نفسها، ما هي الإمكانيات الإيقاعية التي يمكن للشاعر استغلالها ضمن شكل بعينه: في القصيد، أو في الموشح أو في الشعر الحديث الموزون؟ أي أن الأمر يتعلق بالذائقة وبالخواص "التقنية" إن جاز التعبير للبحور. فعلى سبيل المثال لا يمكن مطلقا استعمال البحر الطويل في الشعر الحديث الموزون لأنه تقنياً لا يقبل الجزء ولا النهك ولا التشطير، أي لا يقبل التخفف من إحدى تفعيلاته أو أكثر، أو بكلام آخر لا يتمتع بالمرونة التي تسمح له بـ "التحرر" من شكل القصيد، ليحط وينزل في قصيدة حديثة موزونة مثل التي يكتبها محمود درويش مثلا.
كانت الأمور تسير فعلا بشكل متطابق مع ما نعرفه من مد للحضارة العربية ثم جمود وتراجع فيها، لم يشذ العروض عن ذلك، ففي زمن الشروح والشروح على الشروح، ظهرت منظومات تعليمية معقدة أقرب إلى المعميات والأحاجي، وكثرت الشروح وتعقد تعليم العروض وغدا مقتصراً تقريباً على حلقات ضيقة أدنى إلى المشيخة والتصوف منها إلى علماء اللغة ومعلميها، إلى أن وصلنا النهضة، هنا ظهر تطور ممتاز في التجديد في طرق تعليم العروض وتنوع لافت في مقاربته وهو ما لبث ان انتكس للمفارقة في فترة الحداثة بتأثير مضلل للمستشرقين الذين اهتموا بعلم العروض العربي.
بحثت بعمق في كتب المستشرقين عن العروض (في فترتي النهضة والحداثة)، ولمست مذاهبهم في تذليل صعوبات تعليمه لغير الناطقين بالعربية، ومحاولاتهم لتقريبه من العروض الإغريقي مثلاً، وبحثهم المحموم عن النبر في العربية والارتكاز في الشعر العربي، وهذا ما فتح أمامي نافذة للمقارنة بين أعاريض مختلفة، وطرق تعليمها وتدوينها وكيف أثر الامر على العرب الذين بحثوا في العروض في فترة الحداثة. بطريقة ما فتح علم العروض أمام عيني خزائن من الكتب، وقصص وحكايات جميلة وطريفة، ودلني إلى واحد من أهم الكتب: كتاب ”دائرة الوحدة“ لعبد الصاحب مختار، هو الكتاب الوحيد الذي نظر إلى علم العروض بعيداً فعلا عن طريقة الخليل، ابتكر طريقة حداثية ممتازة في التعرف إلى الإيقاعات الشعرية، وفتح الباب أمام اختلاط البحور، هذا ما يفعله شعراء الحداثة أحياناً، كتاب ممتاز ممتاز.
جدلية: ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
ديمة الشكر: أهمها دحض الأفكار المسبقة التي تقول بجمود العلم، فالجمود يطول طرق تعليمه ولا شيء آخر. وكذلك أنه علم صعب ومعقد، وهذا صحيح لكن ليس العلم كله صعب، ثمة أجزاء صعبة منه، منها مصطلحاته الكثيرة والصعبة فعلا، بيد أن هذا لا يبرر العزوف عن تعلمه أو تعليمه. هل نتوقف عن تعليم وتعلم ما هو صعب ومعقد في الرياضيات إذن مثلا؟ الصعوبة يجب أن تكون حافزا لاستنباط طرق جديدة وحداثية في التعليم.
لم يكن الحصول على الكتب الخاصة بفترة النهضة يسيراً، لكن تنقلت بين بيروت ودمشق، واستطعت الوصول إلى أغلبها، ولم أعد ذلك صعوبة وقتها، فقد كان الشغف يقودني. ولكن في أحايين كثيرة كنت أقول لنفسي: لمَ أفعل هذا؟ لمَ أبحث في أمر يتطير الناس منه ويسخرون أيضاً؟ فأحبط بسبب صعوبة البحث، ثم أتابع مجددا وأنا أقول لنفسي طيب بما أنه متروك وهامشي فسأحتفي به، هو حصتي ولا أحد يريده.
وربما كانت الصعوبة الأكبر أن لا كتب بحثت في الامر أستطيع الاعتماد عليها لأطور بحثي، كان علي أن أبدأ تقريبا من لا شيء، وأن أكتشف بنفسي مسار العلم وتاريخه. صحيح ثمة كتب ولو قليلة جدا بحثت في نشأة إيقاعات الشعر العربي لكنها لم تتابع الأمر، بمعنى أنها خطت نصف خطوة ولم تربط النشأة بما صنعه الخليل بعد ذلك، ولم تتوسع كثيرا في ما يخص الأشكال السابقة على القصيد (الشطرين المقفى) لأسباب كثيرة منها مثلا قلة ما وصلنا من ذلك الشعر، وضعف المقارنات مع الشعر في اللغات السامية الأخرى. بالإضافة إلى الأخطاء الكثيرة المنتشرة في كتب الحداثة سواء أكانت بحثية أم تعليمية، أدت كلها إلى زيادة "الأفكار المسبقة" وابتكار صعوبات جديدة، شيء يشبه الفوضى، وفي ظني أن سبب ذلك هو الانقطاع المخل بين النهضة والحداثة، نادرا ما تجد حداثيا يشير إلى نهضوي، كما لو أن الحداثة طردت النهضة ورمتها. غياب التراكم، وعدم الاستفادة من النتائج التي توصل إليها النهضويون مشكلة كبرى في رأيي. ونادرا أصلا ما التفت الحداثيون إلى الشعر الحديث في كتبهم، لا يوجد ولا طريقة واحدة تدل الطالب اليوم كيف يفرق بين الشعر الحديث الموزون وغير الموزون. لهذا يستغرب الناس حين أقول لهم السياب ودرويش مثلا كتبا شعرا موزونا. النكسة فعلا في غالبية كتب الحداثة التي رمت النهضة وأدارت وجهها للشعر الحديث، وغرقت في جدالات غير ذات صلة متأثرة بأطروحات المستشرقين الذين لا يمكن أن يعرفوا العروض العربي كأهله، وهم أنفسهم وضعوا كتباً ممتلئة الأخطاء المعرفية.
جدلية: كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
ديمة الشكر: هو كتاب في تأريخ علم العروض، كتاب بحثي، ينظر في أحد علوم اللغة العربية، لكنه بسبب منهجه يظهر في عيني أحيانا كصورة مصغرة عن علاقتنا بتراثنا ولغتنا اليوم، كيف نهتم بعلوم اللغة؟ اهتمامنا قليل، ومع ذلك لا نكف عن الشكوى من تراجع اللغة العربية مندهشين من الامر رغم إهمالنا لعلوم اللغة العربية وطرق تعليمها. مفارقة غريبة عجيبة، نحن كمن رسب في الصفوف الأولى في المدرسة ومع ذلك يتذمر ويصرخ لماذا لم يتم قبولي في الجامعة؟!! ويعد نفسه مظلوما كذلك.
أظن أن موضع الكتاب مع إخوته من كتب العروض هو مكانه الطبيعي، مع ذلك يمكن أن يغيّر مكانه فيذهب إلى كتب التاريخ بسبب "قصص" العروض فيه، ويمكن أن يذهب أيضاً إلى رف الشعر، ففيه شواهد الخليل ومنظومات تعليمية كثيرة، صحيح هي ليست شعرا لكن لها شكله، هي نظم أعرف هذا لكن أحب لو وضع الكتاب مع الشعر لأنه عنه.
اعتنيت بتبويبه ليكون سهل المأخذ، أنت غير مضطر لقراءته كله، تستطيع أن تقرأ الجزء الذي يهمك فقط، من هنا من الممكن أن يكون التفاعل معه أكثر حرية، هو ينظر أيضا في طرق التعليم، وقد يكون مفيدا لمن يحب تعدد الأبواب المفضية إلى أمر بعينه. والكتاب يعتني بفكرة تدوين النغمات، وحفظ الإيقاعات أو ما سمي قديما "أبنية العرب"، تعجبني التسمية وأراها معبرة جدا.
جدلية: ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
ديمة الشكر: هو كتابي الأول رسمياً لذا فإن موقعه هو موقع القلب بالطبع، البحث في العروض قربني إلى التراث، وجعلني أحب الشعر الحديث أكثر وأفهم كيف أن تلك الإيقاعات الراسخة للشعر العربي التي فتنتنا على مر العصور وقليلا ما خرجنا عنها (خلا النزهة الأندلسية للموشح والأزجال)، جاء شعراء الحداثة وخاصة السياب ودرويش فاقترحوا لها بديلاً جميلاً استطاع الصمود لأزيد من نصف قرن، الكتاب يقول أيضاً ثمة إمكانيات هائلة في الإيقاع لا مبرر للتفريط بها. كنت أكتب ونصب عيني الشعراء والنقاد الأقرب إلى قلبي، كنت أريد شيئا يليق بما كتبوه. وكان البحث العلمي الغربي نصب عيني كذلك، كنت أريد كتابة شيء محكم، عربي ومحكم، كنت لا واعية أتصرف وعنوان أحد كتب عبد الفتاح كيليطو يرن في رأسي: "لن تتكلم لغتي"، لهذا أفردت مساحة واسعة لما كتبه المستشرقون عن الأمر.
جدلية: من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟
ديمة الشكر: أظن وأتمنى أن يكونوا ممن يحبون الشعر ويقدرونه مثلي، ولا يجدون أن عليهم الاختيار بين التراث والحداثة أو بين الوزن وغيابه أو بين الأشكال الشعرية. لكن فلأكن واقعية، هذا كتاب للمختصين والذين يعشقون اللغة العربية، والاهم أنهم يعشقون البحث والتعمق فيها.
جدلية:ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
ديمة الشكر: أتمنى أن يصيبني شغف مماثل لأكتب عن الشعر الحديث، عن شعراء أحبهم، سيكون كتابي نقدياً بالطبع.
[اضغط/ ي هنا لقراءة فصل من الكتاب]